يقول مايكل هارت في مقدمة كتابه
"العظماء المائة":
إن اختياري محمداً، ليكون الأول
في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله
الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي.
فهناك رُسل وأنبياء وحكماء
بدءوا رسالات عظيمة، ولكنهم ماتوا دون إتمامها، كالمسيح في المسيحية، أو شاركهم
فيها غيرهم، أو سبقهم إليهم سواهم، كموسى في اليهودية، ولكن محمداً هو الوحيد الذي
أتم رسالته الدينية، وتحددت أحكامها، وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته. ولأنه أقام
جانب الدين دولة جديدة، فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضاً، وحّد القبائل في شعـب،
والشعوب في أمة، ووضع لها كل أسس حياتها، ورسم أمور دنياها، ووضعها في موضع
الانطلاق إلى العالم. أيضاً في حياته، فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية،
وأتمها.
وإن الله – عز وجل – قد أكرم
أعظم البشر سيدنا محمد – صلى الله عليه واله وسلم – بأعظم المعجزات، وهي القرآن
الكريم، والذي يعتبر الدستور الشامل لكل ما يواجهه الانسان في حياته على جميع
الأصعدة (الشخصية، والعائلية، البيئية، المجتمع،....)، كما يرسم له خارطة النجاح
في الحياة بكل ما فيها من علوم (دينية، فلكية، طبية، هندسية،...)،ويعتبر الكثير من
المفكرين أن سورة سيدنا يوسف – عليه السلام – مليئة بالدروس والفنون والمهارات
الادارية، والتي سنسلط عليها قليلا من الضوء من خلال العديد من المقالات، وسنبدأ
في هذ ه المقالة عن علم الادارة.
مفهوم الادارة
إن كلمة الإدارة لم ترد في أي
آية من آيات القرآن الكريم، ولكم جاء مشتق من مشتقاتها في الآية الكريمة: (إِلَّا
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ)[1]،
والذي يمكن استعماله بنفس المعنى الشائع للفعل الأساس (أدار) في عصرنا الحاضر وهو:
إدارة الشئون سواء أكان ذلك في مؤسسة علمية او عملية ، او على مستوى الأسرة، قال
بن المنظور يقال: مداورة الشئون ومعالجتها والمداورة المعالجة[2].
وكما هو واضح وجلي قوة الارتباط بين علوم الادارة والتجارة. ويعرفها الدكتور أحمد
توفيق: " إن الادارة عملية متميزة تتكون من التخطيط والتنظيم والتشغيل والتوجيه
والرقابة، تتميز لتحديد وتحقيق الأهداف عن طريق استخدام القوى البشرية الموارد
الأخرى"[3].
من خلال التعريف السابق والعديد
من التعريفات التي أوردها الكثير من العلماء
المختصين يظهر لنا أن الادارة تنحصر في أحد جانبين هما: العلم أو الفن، ونجد كل
منهم يدافع عن وجهه نظرة. الذي يقول أن الادارة علم يعتمد على الاسلوب العلمي في
وظائفها كالتخطيط والتنظيم والرقابة وفي اتخاذ القرار كالعلوم والعلاقات الانسانية
وسلوك الافراد، وأن الذي يحكم هذه الوظائف هي قوانين علمية ثابتة لو طبقت في ظرف
من الظروف ومن وجهة نظر أي شخص فإن الادارة تكون في احلى صورها. أما الذين يقولون
بأن الإدارة فن فإنهم يدافعون عن وجهة نظرهم بأن العملية الإدارية تختص بالجهد
البشري من أجل الوصول الى أفضل النتائج من خلال التدريب والتحفيز والتنسيق
والتوجيه، فهي مركبة على مواهب الشخص الذي يدير المنظمة أو المشروع، وقد تؤثر عليه
الكثير من العوامل الأخرى (الدينية، الاجتماعية، الاقتصادية،..). ومن الممكن أن
هذه الخلافات قد وصلت الى مجموعة أخرى من العلماء والمختصين ورأوا أن الإدارة في
مزيج بين العلم والفن لا يمكن أن ينفلا عن بعضهما البعض. وإذا ما أردنا أن نرى
الإدارة من خلال ما تضمنه الشارع الإسلامي إنه يمكننا القول بأن الإدارة الإسلامية هي علم وفن وعقيدة، فهي علم لأنها
تحتوي على مجموعة من القوانين والمبادي والنظريات، وهي فن كونها تعتمد على موهبة
الشخص وقدرته على استخدام الطريقة المثلى لتحقيق الهدف، وهي عقيدة لأن تلك المبادئ
والقواعد مستندة على القرآن الكريم والسنة الشريفة[4].
أهمية الإدارة في القرآن الكريم
لقد احتوى القرآن الكريم على
العديد من المفاهيم والمصطلحات الإدارية والتي أسهمت في ترسيخ المفهوم الإداري،
وسوف نتعرف على بعضاً من هذه المفاهيم والمصطلحات، وما تمثله من الرؤية الشمولية
والتي ينبغي أن تحيطنا عند تناول الإدارة من المنظور القرآني. وهي:
- الأمة: وتعني جماعات الناس المرتبطين مع بعضهم روحياً وحياتياً، قال الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[5].
- البيعة: وهي صيغة التولية في الاسلام، قال الله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)[6]، وتعني قبول الامارة والأمير وحق الطاعة له.
- الشورى: وهي التشاور في الأمر، قال الله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)[7]، وهي وسيلة مهمة تخدم المفهوم الإداري، حيث يستفاد من صاحب الرأي السديد ولا يكون الرأي حكراً على فئة دون أخرى.
- الخليفة: وهو القائد العام والمدير الحقيقي ويمثل رأس الهرم في العملية الإدارية، قال الله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)[8].
- أولو الأمر: وهم القادة المطاعين، ويمثلون مجموع القيادة سواء العليا أو الدنيا، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)[9].
- العمال: وهم الأجراء والأعوان الذين يقومون بأداء المهام وتقديم الخدمات للناس بأجر محدد، قال الله تعالى: (تَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)[10].
القرآن الكريم يشمل كل أسس
الإدارة
قال الله تعالى: (قُلْ يَا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ
لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[11]،
ويقول عز من قائل: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ
مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، قَالَ سَنَشُدُّ
عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا
بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ)[12]،
ويقول: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا
آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[13].
بعد هذا السرد الواضح والمعبر عن مفاهيم ومصطلحات الإدارة من خلال الآيات
القرآنية، وفي مواضيع متعددة، ترى: هل نستطيع أن نقول بأن القرآن الكريم قد احتوى
على كل معاني الإدارة؟ طبعاً لا نقول ذلك، بل نجزم بأن القرآن الكريم أكثر
تفصيلاً، وأشمل معاني، ويدخل الروح لطبيعة الأعمال ويحميها.
تطور علم الإدارة
تعتبر الإدارة بالمفهوم العام من
أقدم الأنشطة الإنسانية، لأن الإنسان في حياته لابد وأن يدير نفسه من أجل تحقيق أي
نوع من أنواع الحياة، سواء كان صيداً أو زراعة أو صناعة، وهي من الحرف التي ابتدأ
الانسان بها حياته، ثم تطور به الامر الصناعة
والتجارة. كل هذه المجالات التي يستفيد منها الانسان لابد وأن يستخدم كافة ما يملك
من قدرات من أجل إيجادها وتطيرها واستمرارها، لأنها أساس مهم وعامل من عوامل
البقاء له في الوجود.
إن تاريخ الإنسان ابتدأ من سيدنا
آدم – عليه السلام – حافل بالوقائع التي تثبت أنه استفاد من غيره في كل نواحي
الحياة، ونحن نستطيع أن نلخص ذلك من خلال القرآن الكريم من واقع القصص التي جاءت
فيه، كقصة سيدنا موسى – عليه السلام – وكيف استطاع أن يعبر باليهود الى أرض
الميعاد، وكذلك قصة سيدنا يوسف – عليه السلام – وكيف استطاع أن تبليغهم الأزمة
التي مرت بها مصر في زمانه، وقصة سيدنا سليمان – عليه السلام – مع الصديق وحياة
بلقيس في اليمن. إن واقع العمل الإداري موجود في كل زمان ومكان ولكنه يختلف
باختلاف الموجودين فيه وما يملكونه من قدرات مادية أو معنوية. ويمكن القول والتأكيد
على أن الحاجة الى الإدارة ظهرت منذ بدأت الحياة البشرية، لأن الانسان يشعر بأن الظروف
المحيطة به تحتم عليه التعاون بينه وبين غيره من أجل الوصول الى الأهداف التي يفكر
كل واحد منهم فيها. وهناك قاعدة واضحة هي أن الروح الفردية والنزعة الشخصية كانت
سائدة بين أفراد المجتمعات البدائية لأنهم لا يفكرون الا في ذواتهم، ولا ينتجون
الا ما يكفيهم، وفي حالة التخلص من هذه الصفات ينتقل التفكير الى واقع أوسع وأكبر
يكون الرقي التقدم والاستفادة على مستوى الجميع.
يقول كلودس جورج: "إن تاريخ
الفكر الإداري مرتبط بالتاريخ البشري ارتباط الفرع بالأصل، الا أن الناس في القديم
– وإن كان منهم مديرون – لم يكتبوا عن الادارة بل كانوا يمارسونها عملياً فعرفوا
القيادة والتنظيم واتخاذ القرارات"[14].
ويقول الامام القرطبي في شرح الآية: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ
آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ
وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)[15]،
لقد مارست اليمن الادارة والسيادة المستقلة في أزمنة كثيرة منها حقبة بني تبع وبني
حمير[16].
وتظهر الادارة واضحة للعيان في قصة سيدنا يوسف – عليه السلام -، فقد قال صاحب كتاب
قطوف إدارية في القرآن الكريم: "ويجري التخطيط والبرمجة على مراحل حسب الظروف
الزمانية والمكانية مع استشراف المستقبل وبقدر الامكانات المتوفرة البشرية
والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والمالية والمادية والطبيعية والفنية
النفسية"، يقول الله – عز وجل -: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا
فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ
خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَعْلَمُونَ)[17].
سنقوم في المقالة القادمة – بإذن
الله – بتقديم دراسة مقارنة مختصرة بين الادارة الاسلامية والادارة المعاصرة ممثلة
في التجربة اليابانية.