الادارة: هي تلكم الكلمة التي
أرى أنها كالماء، حيث ولابد من وجودها في عمل، وملازمة لكل نجاح. كنا في المقالة
الماضية قد عرجنا – بعجالة – عن مفهوم الادارة، وأهميتها الواردة في القرآن كريم،
وتنقلنا – بأسرع ما سمحت لنا به صفحات النشر – على تطور علم الإدارة، ولقد حصلنا
على السماح من الرقيب على استكمال الكلام عنها بهذا الموضوع والذي سيسلط الضوء –
ولو قليلاً- على نموذج من الادارة الاسلامية والادارة المعاصرة. فلقد تعددت نظريات
وأساليب الادارة في العصر الحديث، وهناك العديد من النظريات التي تعد الاساس في
نشوء على الادارة الحديث والتي قادها (فريدريك تايلور وهنري فايول) وهما من مؤسسي
الفكر الاداري الغربي الحديث. وقد غفل – او تغافل – العلماء في العصر الحديث عن
النظرية الادارية الاسلامية والتي تمثلت في رسالة الاسلام الخالدة، والتي تستمد
أصولها من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وسير الخفاء الراشدين، موروث
العلماء المسلمين في كافة عصورهم، ولعل في الزمن القريب كانت النظرية اليابانية في
الادارة هي إحدى أكثر النظريات الادارية صيتاً ودراسة وتطبيقاً لما أثبتته من نجاح
وتفوق على باقي النظريات، ويمكن توضيحا فيما يلي:
النظرية الإدارية اليابانية:
تعريف ومفهوم النظرية الإدارية
اليابانية:
هي من أفضل وأحدث النظريات المطبقة
حالياً في كبرى المنظمات العالمية والتي أثبتت مدى فائدتها للمنشئات والإدارات الحكومية
وغيرها، وأساس النظرية هو: أن العلاقة بين الإدارة والعاملين يسودها: الألفة، المودة،
الثقة الكاملة.
ولم تهمل النظرية الفروق الفردية
بين العاملين فبدلاً من تقسيمهم قامت النظرية على خلق بيئة اندماجية متكاملة بين الإدارة
والعاملين ، فهي تقوم على بناء فرق عمل ذات اختصاص واحد وتحت إشراف مدير المجموعة وربما
يكون أقل من حيث المرتبة والمنصب من شخص آخر يعمل ضمن نفس الفريق. هذا ما يسمى بالقائد.
وقد جاءت النظرية موافقة لنتاج فكري
ثقافي متراكم في اليابان، ففيها كان المعبود الأول لديهم وإلههم الأوحد هو الإمبراطور،
وكان هو الآمر الناهي في الإمبراطورية اليابانية. وحين نشبت الحرب بين اليابان وأمريكا،
قامت أمريكا بهدم صرح عظيم لدى اليابانيين وهو .. الإمبراطور!
مع مطلع 1953م بدأ التحول في طريقة
الإدارة في اليابان، وركيزة النظرية عند اليابانيين هي: عبادة العمل وزيادة الإنتاج،
فأصبحت العقوبة لدى اليابانيين، منعهم من العمل. وقد اتجهت الإدارة اليابانية في بداياتها
بتكوين فرق عمل، في الفصول الدراسية الأولى. ولا يوجد نجاح فردي لشخص واحد إنما يوجد
نجاح مجموعة متكاملة، فالنجاح يسجل للجميع .. والرسوب كذلك. هذه البيئة العملية خلقت
إنتاج يصل إلى ما يسمى الخطأ الصفري، وهو يعني أنه وعلى خط الإنتاج فإن المخرجات ذات
العيب الصناعي .. هي صفر بالمائة.
وفي هذه البيئة الصحية للعمل، خرجت
ما يسمى بإدارة الجودة الكاملة. كما ظهر مفهوم "فقط في العمل": أي لا يوجد اعتصامات، لا يوجد أعياد رسمية، يوجد
عمل وعمل فقط، وإنتاج يتزايد مع الوقت، حتى توصلوا إلى ما يسمى بـالتوريد اللحظي، ليكون
المخزون يساوي صفراً. فلا يحتاجون لوجود مخازن كبيرة تأخذ أماكن واسعة من بلد يكتظ
بالناس العاملين.
إن أسلوب الإدارة الياباني يعتمد
على نظرية الإدارة بالجودة الشاملة، أو ما يسمى "مبادئ ديمنغ"، وهو الإداري
الاقتصادي الأمريكي الذي وضعها لليابانيين ، وهي منظومة من المبادئ والأدوات والممارسات
التي تهدف إلى تحقيق الرضا عند الزبون. وتساعد الإدارة بالجودة الشاملة على تحقيق الهدف
من خلال إلغاء العيوب والأخطاء التي قد ينطوي عليها المنتج أو الخدمة، وإضفاء طابع
القوة على التصميم الذي يخرج به المنتج، وتسريع الخدمة، تخفيض التكلفة وتطوير جودة
العمل كل ذلك من خلال تغيير ثقافة التنظيم.[2]
خصائص النظرية الإدارية اليابانية:
- مبدأ التوظيف مدى الحياة: ومعنى ذلك أن العامل الي يعيش في منظمة ما فهو يبقى فيها الى بلوع سن التقاعد، ولا يتم الاستغناء عنه الا لأسباب قهرية، أو بنا على طلبه، وهذا يسخ مفهم الاستقرار لدى العامل.
- المشاركة في اتخاذ القرار: وهذا يخلق انسجاماً وتوافقاً بين أهداف العاملين، وأهداف المنظمة، ويوفر نوعاً من الرقابة الذاتية.
- البطء في التقييم والترقية: من خلال التركيز على تطوير المهارات المهنية للعاملين، حيث يتم نقل العامل من موقعه إلى موقع آخر على المستوى الإداري الواحد نفسه، ليعطي العمل صفة الشمولية والكمال.
- التعليم والتدريب التطوير المستمر دوماً: حيث تقدم الإدارة اليابانية التعليم والتدريب لكافة الأفراد من عاملين ومديرين وبقية المستويات- كل حسب عمله- وطيلة فترة خدمتهم، الأمر الذي يؤدي إلى احتراف العامل في عمله مما ينجم عنه زيادة الإنتاج وتحسين نوعية المنتجات.
- الرقابة الذاتية:
حيث يراقب العامل نفسه بنفسه عوضاً عن الرقابة الخارجية، وها الأسلوب له ميزتان:أ. يعزز ثقة المرؤوسين في نفس الرؤساء.ب. يلزم الرؤساء بتعريف العاملين بفلسفة وأفكار وأهداف المنظمة.
- التقاعد المبكر: إن سن التقاعد في اليابان هو سن الخامسة الخمسون عاماً، وذلك حتى يفسح المجال أمام الشباب ليأخذوا فرصهم في العمل والحياة والوظيفة، ويقدم للمتقاعدين مكافآت مجزية في نهاية الخدمة.
- الإدارة الأبوية: تتصف معاملات المدير مع الموظفين بالأبوية، ويعاملهم كما يعامل أبناءه إلى درجة أنه يساهم في حل مشكلاتهم العائلية، وقد يشارك في اختيار زوجة لأحد العاملين.
من هنا نجد أن النظرية الإدارية
اليابانية تركز تركيزاً كبيراً على الموارد البشرية، دون التركيز على المقع
الجغرافية أو الموارد الاقتصادية، ويستدل على ذلك أن دولة مثل اليابان هي فعلاً
بلا موارد اقتصادية وموقعها الجغرافي ليس ذو أهمية على خارطة كوكب الأرض.
النظرية الإدارية الاسلامية:
تعريف ومفهوم النظرية الإدارية الاسلامية:
يعرفها الدكتور/ حزام المطيري
حين يقول: "هي تلك الإدارة التي يتحلَّى أفرادُها - قيادةً وأَتْباعًا،
أفرادًا وجماعات، رجالاً ونساءً - بالعلم والإيمان عند أدائهم لأعمالِهم الموكلة
إليهم، على اختلافِ مُستوياتهم ومَسؤولياتِهم في الدولة الإسلامية، أو بمعنى آخر:
هي الإدارةُ التي يقوم أفرادُها بتنفيذ الجوانب المختلفة للعملية الإدارية على
جميعِ المستويات، وفقًا للسياسة الشرعية"[3].
ويمكن تلخيص خصائص النظرية
الإدارية الإسلامية فيما يلي:
- المشاركة في اتخاذ القرار: والأدلة على ذلك كثيرة جدا سواء كان ذلك في القرآن الكريم أو السنة المطهرة، مثل: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[4]. وما ورد في السنة المطهرة ما أخبر عنه الصحابي الجليل أبو هريرة حين قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -: (إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا).[5]
- حسن اختيار المدير أو القائد: إن لكل مدير الأثر البالغ على أداء العاملين للعمل، فمن مدير باعث على الإبداع والانجاز ومشجع على التمييز والتطور، الى محبط للمعنويات والهمم ومثير للقلق والتوتر، وهذا بالتأكيد يؤثر على بيئة العمل والإنتاجية ، فالمدير المتميز بمهاراته وأخلاقياته إما أن يكون داعماً لنجاح فريقة وشركته، وإما أن يكون عقبة تعرقل عجلة الإنتاج والتقدم، وكما يقولون وراء كل إدارة ناجحة مدير فعال وناجح. إن اختيار الشركة لمدير متميز يجب ألا يترك للصدفة، وإنما لابد من وضع معايير يمكن من خلالها الوصول إلى تلك الغاية، وقال أورد لنا الأمام علي بن أبي طلب – كرم الله وجهه – بعضاً منها حين قال لمالك الأشتر: (انظر في امور عمالك فاستعملهم اختبارا ولا تولهم محاباة وإثره فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة وتوخ منهم أهل التجربة الحياة) يضيف بعدها: (من أهل البيوت الصالحة والقدم في الإسلام، فإنهم أكرم أخلاقاً، وأصح أعراضاً، وأقل في المطامع إشراقاً، وأبلغ في مواقع الأمور نظراً).العمل
- المقرون بالعلم والتجربة: إن أول الكلام في النظام الإسلامي وهو أول الوحي المنزل على نبينا الكريم –صلى الله عليه وسلم – في الآية: (اقرأ)[6]، وقد ذكر العلم في القرآن الكريم (112) مرة، كما أن السنة النبوية المشرفة مليئة بما يحث على العلم واجتماعه مع العمل.
- التقدم في العمل: ويكون مقرونا بعدة امور منها:
أ.
انتهاز الفرص:
كما يقول الأمام علي بن أبي طلب – كرم الله وجهه –: (انتهزوا فرص الخير فإنها تمر
مر السحاب)[7].
ب. التقدم
المستمر: إن التوقف هو الموت، والتقدم هو الحياة، ومن
يتقدم هو الكيس، والكيس من كان يومه خير من أمسه.
ت. مرافقة
ذوي التجارب والخبرات: يقول الأمام علي بن أبي طلب – كرم
الله وجهه –: (أفضل لو شاورت ذوي التجارب)[8].
ث. الإدارة
الأبوية: حقاً إن المدير هو الأب، ويحب أن يتعامل مع
العاملين كأنهم أبنائه، قد قال الإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – للأشتر:
تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من
ولدهما.
خاتمة:
إن
المتبصر في واقع الإدارة اليابانية وخصائصها يجد أنها ليست بعيدة عن المفاهيم
الإدارية التي جاءت في القرآن الكريم والسنة المطهرة وسير الخلفاء الراشدين
والعلماء الكرام، حتى أننا نجد أن بعضهم يقول إن التجربة اليابانية قامت على أسس
أكد على الدين الإسلامي.
والسؤال
الذي يطرح نفسه: هل توجد علاقة بين التجربة اليابانية الفكر الإسلامي؟
ويمكن
الإجابة على هذا السؤال بعده أوجه، منها:
أ.
إن خصائص
التجربة اليابانية هي من لب وقلب الأفكار الإسلامية التي دعا إليها القرآن الكريم
السنة المطهرة، مثل: الشورى، أهمية العمل الجماعي، المعاملة الحسنة، إعطاء الحقوق
لأهلها،...
ب. إن
الفترة التي بدأت تظهر فيها قوة اليابانيين (عام 1886م) بينت أن زعيمهم (مايجي) قد
قرر أن يعتنق الاسلام، هل قرر ذلك دون أن يتعرف على الفكر الإسلامي؟
ت. إن
من رواد الجيل الأول ونبغاء اليابانيين في ذلك العصر (توشيهيكو ايزوتو) وهو أول من
ترجم القرآن الكريم الى اللغة اليابانية، وكتب عن المصطلحات الأخلاقية في القرآن الكريم،
وعن مفاهيم الأخلاق في الإسلام، وقد ألف كتب يحمل عنوان (الله.. والانسان في
القرآن الكريم)، وله العديد من الدراسات والكتب التي تدل على مدى تعمق هذا الرجل
في الدراسات الاسلامية ومدى حجم تأثيره الكبير على أبناء جيله من اليابانيين.
ث. إن
كثيراً من الباحثين اليابانيين يعتبرون (ايزوتسون) ودراساته عن الاسلام شكلت ركيزة
أساسية وصلبة لولادة تيار عريض من الباحثين المهتمين بالدراسات العربية والاسلامية
في اليابان، وذلك في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد تتلمذ على يديه جيل كامل
من الذين تخصصوا في الدراسات الاسلامية والعربية أثروا بصورة كبيرة على تطور النظرية
الإدارية اليابانية.[9]
من خلال هذه النقاط وغيرها
يمكننا أن نجزم ان هناك علاقة وطيدة بين التجربة اليابانية والفكر الاسلامي، فعلى
المبهورين بالتجربة اليابانية أن يراجعوا حساباتهم ويعودوا الى ثقافتهم الأولى،
ويدرسوا القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وسيرة الخلفاء الراشدين والعلماء
الكرام، ليعلموا أن النهضة الإسلامية سبقت غيرها من أهل المشرق والمغرب بأكثر من
ألف أربعمائة عام.